رواية “قاهرة اليوم الضائع”.. هل يمكن أن تتحدث المدينة عن نفسها بصدق؟!

عربي بوست
تم النشر: 2024/04/18 الساعة 14:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2024/04/18 الساعة 14:12 بتوقيت غرينتش
وسط القاهرة - shutterstock

تيار الوعي في الرواية يلتصق بالذات الساردة ارتباطاً وثيقاً، حتى بعد انتقالها من الواقع المعاش إلى الخيال أو الفانتازيا. إذ إن واقعنا "الشرطي" أي الواقع الذي تهيمن عليه السلطات القمعية، يتغلغل حتى في الأحلام والكوابيس والخيالات.

جاءت رواية "قاهرة اليوم الضائع" دون مقاطع سردية أو فصول في أقل من 30 ألف كلمة. البروتاجونيست، "بطل الرواية"، رجل في منتصف العمر رسمه إبراهيم عبد المجيد على أنه كاتب مرموق، ومن المفترض بالضرورة أنه الكاتب الروائي ذاته دون أن يُسمى. يتجه إلى القاهرة في يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني بين عامي 2022 و2021، ليرى بنفسه أثر الدعوة للمظاهرات، فيجد الشوارع خالية إلا من ضباط وأمناء والشرطة في كل مكان. كل المقاهي في وسط القاهرة وأحيائها من التوفيقية إلى الحسين ثم مصر الجديدة مغلقة. يستغل الفرصة ليعرض علينا أسماء ملاك ومعماريي المباني الفخمة والعتيقة في القاهرة، التي مر عليها حوالي 100 عام، من جروبي وريش وآستوريا في ميدان سليمان باشا (سيڤ الفرنساوي) حتى البارون إمبان وشريكه بوغوص باشا. فنجد في الرواية نوستالجيا لجمال المعمار من العصر الاستعماري (الذي نطلق عليه مدحاً: الخديوي).

ينقل الكاتب لنا تشتته بين الموسيقى الكلاسيكية وبين أغاني أم كلثوم ذات الطابع الجريء والمبهج، التي تنساب بين شوارع القاهرة وكذلك الإسكندرية. وبضمير الفنان يعبر عن صدمته من فقدانٍ للجمال وهذه الحالة الذي وصلت إليها المدينة ونحن، مع الأبنية الإسمنتية والألوان الباهتة أو المغبرة بغبار القاهرة البني الذي يغطي كل شيء، ما أثر حتى حاسة البصيرة لدى غالبيتنا.

الكاتب، الذي يسير كالنائم ولكنه يظل الأكثر يقظة بيننا، يلتقي بالشابة كوثر، المرشدة السياحية. يتبادلان الأحاديث عن القاهرة الخديوية والفاطمية وأيضاً عن هليوبوليس (مصر الجديدة)، وعن الحشيش والحشاشين، وبالطبع عن ثورة 2011 وعن والدها الثوري الذي شارك في أحداث الميدان أنذاك. يتحدثان أيضاً عن شقيقها المعتقل بسبب ما كتبه على وسائل التواصل الاجتماعي، ويبرع الكاتب في رسم الخوف، إذ تجد الكاتب نفسه يخشى أن يتم تفتيش هاتفه المحمول من قبل الضباط الذين قد يعتقلونه بسبب ما يكتب على تلك المنصات الافتراضية، لدرجة أن الخوف أحاط به، لدرجة أن خشي أن يكتشفوا ما يفكر فيه، كما هدده أكثر من ضابط في الشوارع.

رواية
ميدان التحرير – SHUTTERSTOCK

يسير بطل الرواية كعملاق مارد يفسح الطريق ويحرك الأشياء والعمارات بقدرة خارقة، قدرة مهولة تثير فزعاً داخلياً لأن كل العمالقة المردة ليسوا مأموني الجانب حتى لو تحركوا استجابة لنداء "الشعب". وبينما يستمر الكاتب في السير يفسح له الضباط والجنود المنتشرون في كل مكان، سامحين لـ"الحاج وابنته" بعبور الكمائن والطرق المغلقة، ويجيبون عن أسئلتهم حول الأوضاع في القاهرة المغلقة.

أتساءل ملياً: هل كانت القاهرة في اليوم الضائع؟ أم أنها هي الضائعة اليوم؟ في أحد الشوارع، يلتقي الكاتب وكوثر بمحفل للملك فاروق ويدخل في حوار معه. خلال اللقاء، يلتقي الملك فاروق بالفنان عبد الوهاب ويسأله لماذا اختار ارتداء بدلة اللواء بدلاً من استمراره كفنان، رغم أن مقامه بين الناس تفوق أي رتبة عسكرية؟ ثم يجيب فاروق بنفسه: "أنا أعرف أنه بعد انقلاب الجيش، لم يعد بإمكان أحد أن يقول لا". ويقول للكاتب كيف كان الناس يخرجون في مظاهرات ضده مرددين: "إلى أنقرة يا بن .."، ولكن منذ عام 1952، لم يعد بالإمكان حتى التفكير في إهانة الحاكم، فحتى الأفكار أصبحت معروفة للسلطات.

في الرواية، يتبنى الكاتب موقفاً منحازاً بشكل مألوف، حيث يربط بين السادات وتسلط الوهابية، لكنه يظهر تردداً ويتحول لوديع ولا يستطع أن ينتقد عبد الناصر. فعندما يتعلق الأمر بناصر؛ يظهره بمثابة شخصية يصعب انتقادها، حيث يدعي الكاتب اليساري أنه كان جزءاً من الملايين الذين تظاهروا حباً في عبد الناصر حتى جنازته، لكنه لم يعيِ حقيقة القمع والسجون والاعتقالات إلا بعد وفاة عبد الناصر، وهذا الإدراك جاء فقط من خلال الأفلام مثل "الكرنك" و"إحنا بتوع الأتوبيس" و"زائر الفجر".

يقدم النص نظرة ملتوية تتهرب من النقد الذاتي، فالكثيرون من اليساريين المخلصين قد عانوا وماتوا خلال عهد جمال عبد الناصر، حتى أولئك المخلصون لتجربته السوداء. بالرغم من الانتقاد الشديد لمسؤولين مثل السادات وفايز حلاوة، يتغاضى اليساريون عن حقيقة أن قادة جيش 1967 كانوا تحت رعاية المشير عامر. وأتساءل هنا: لماذا يظل القمع والفشل الناصري مغلفاً بستار من حُسن التعامل أو الافتراض بحُسن النوايا، رغم كونه المؤسس الفعلي للدولة البوليسية التي نعيشها كديستوبيا؟! أعتقد أن الإجابة تكمن في أن منظري الأحزاب الشيوعية في الخارج والداخل، بعد صدام عنيف مع الأنظمة العسكرية في العالم العربي، صنعوا تبريراً فقهياً ماركسياً يبيح لهم الانضواء تحت راية التحرر الوطني في الأنظمة الفاشية، من العراق إلى الجزائر مروراً بسوريا ومصر. لأن البعض فضّل جمع فتات موائد العسكر بدلاً من تحمل قسوة السجون، وآخرون حصلوا على بعض التعليم والعلاج المجاني بسبب ذلك.

الرواية تظهر انحيازاً واضحاً في تصوير الشخصيات والأحداث في أكثر من مرة، فعلى سبيل المثال: في صفحة 110 من الرواية، تظهر كوثر خشيتها من مقابلة السادات، معتقدة أنه قد يفرض عليها ارتداء النقاب. في حين أن السادات قد سمح فعلاً بعودة جماعة الإخوان المسلمين وأدخل الجماعة الإسلامية إلى الجامعات، إلا أنه في نفس الوقت قام بزيارة حيفا على متن يخت الملك "المحروسة"، حيث ظهرت ابنته جي جي (جيهان الصغيرة) بمظهر يخالف أكواد البس المحافظة.

أما في صفحة 116، فيفشي الكاتب ألماً شعبياً، حين يذكر التضخم وغلاء الأسعار من خلال حوار حول "البطاطا غالية الثمن"، معبراً عن الألم الحقيقي الذي يشعر به الناس اليوم بسبب الوضع الاقتصادي الصعب، لكن لا يستطيعون التعبير عنه أو الخروج في مظاهرات كما استطاع الكاتب في عام 1977.

في شارع رمسيس، الذي كان يعرف سابقاً بناظلي، يعبر الكاتب الكهل لمحدثته كوثر عن امتنانه قائلاً: "أنتم أعدتم إليّ الجمال في يناير 2011″، مشيراً إلى كيف أعادت الثورة الأمل والجمال إلى حياته. هذه الرواية تأخذنا في رحلة خيالية، أو ربما رحلة ضميرية، لجيل مليء بالأحلام الثورية التي تكسرت على صخور القهر والاستبداد والفشل العسكري والاقتصادي، وهذا الجيل الكهل لا يستطيع سوى الامتعاض سراً أو حتى دون أن يوجه مساراً للشباب في محاولة للخروج من المأزق الحالي.

نحن أمام رواية من كاتب كبير بقيمة إبراهيم عبد المجيد، وهو كاتب لا يحتاج إلى تأكيد جدارته ولا تقلل الانتقادات من شأنه. ربما يجب التعامل مع النص بطرح تساؤلاته الكبرى والتوقف عن التمجيد دون تمحيص، ومعالجة الأسئلة بالجدية اللازمة واستخلاص الصور والمعاني من السرد الضمني الذي رسمته الرواية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

شريف العصفوري
روائي وكاتب مستقل
تحميل المزيد